كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَسْرَارُ الْفَاتِحَةِ فِي الْبَسْمَلَةِ، وَأَسْرَارُ الْبَسْمَلَةِ فِي الْبَاءِ، وَأَسْرَارُ الْبَاءِ فِي نُقْطَتِهَا، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، وَلَا هُوَ مَعْقُول فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْغُلَاةِ الَّذِينَ ذَهَبَ بِهِمُ الْغُلُوُّ إِلَى سَلْبِ الْقُرْآنِ خَاصَّتَهُ وَهِيَ الْبَيَانُ.
قَالَ: وَبَيَانُ مَا أُرِيدُ هُوَ أَنَّ مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهِ أُمُور:
أَحَدُهَا: التَّوْحِيدُ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا كُلُّهُمْ وَثَنِيِّينَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ.
ثَانِيهَا: وَعْدُ مَنْ أَخَذَ بِهِ وَتَبْشِيرُهُ بِحُسْنِ الْمَثُوبَةِ، وَوَعِيدُ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهِ وَإِنْذَارُهُ بِسُوءِ الْعُقُوبَةِ. وَالْوَعْدُ يَشْمَلُ مَا لِلْأُمَّةِ وَمَا لِلْأَفْرَادِ فَيَعُمُّ نِعَمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسَعَادَتَهُمَا، وَالْوَعِيدُ كَذَلِكَ يَشْمَلُ نِقَمَهُمَا وَشَقَاءَهُمَا، فَقَدْ وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَالسِّيَادَةِ، وَأَوْعَدَ الْمُخَالِفِينَ بِالْخِزْيِ وَالشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا وَعَدَ بِالنَّعِيمِ. وَأَوْعَدَ بِنَارِ الْجَحِيمِ فِي الْآخِرَةِ.
ثَالِثُهَا: الْعِبَادَةُ الَّتِي تُحْيِي التَّوْحِيدَ فِي الْقُلُوبِ وَتُثْبِتُهُ فِي النُّفُوسِ.
رَابِعُهَا: بَيَانُ سَبِيلِ السَّعَادَةِ وَكَيْفِيَّةِ السَّيْرِ فِيهِ الْمُوصِّلِ إِلَى نِعَمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
خَامِسُهَا: قَصَصُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى وَأَخَذَ بِأَحْكَامِ دِينِهِ، وَأَخْبَارُ الَّذِينَ تَعَدَّوْا حُدُودَهُ وَنَبَذُوا أَحْكَامَ دِينِهِ ظِهْرِيًّا لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ، وَاخْتِيَارُ طَرِيقِ الْمُحْسِنِينَ وَمَعْرِفَةُ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ.
هَذِهِ هِيَ الْأُمُورُ الَّتِي احْتَوَى عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَفِيهَا حَيَاةُ النَّاسِ وَسَعَادَتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ، وَالْفَاتِحَةُ مُشْتَمِلَة عَلَيْهَا إِجْمَالًا بِغَيْرِ مَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ، فَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَفِي قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لِأَنَّهُ نَاطِق بِأَنَّ كُلَّ حَمْدٍ وَثَنَاءٍ يَصْدُرُ عَنْ نِعْمَةٍ مَا فَهُوَ لَهُ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ مَصْدَرَ كُلِّ نِعْمَةٍ فِي الْكَوْنِ تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ. وَمِنْهَا نِعْمَةُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِاسْتِلْزَامِ الْعِبَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَصَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وَلَفْظُ: {رَبِّ} لَيْسَ مَعْنَاهُ الْمَالِكَ وَالسَّيِّدَ فَقَطْ، بَلْ فِيهِ مَعْنَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِنْمَاءِ، وَهُوَ صَرِيح بِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ يَرَاهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْآفَاقِ مِنْهُ- عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَيْسَ فِي الْكَوْنِ مُتَصَرِّف بِالْإِيجَادِ وَلَا بِالْإِشْقَاءِ وَالْإِسْعَادِ سِوَاهُ.
التَّوْحِيدُ أَهَمُّ مَا جَاءَ لِأَجْلِهِ الدِّينُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ فِي الْفَاتِحَةِ بِمُجَرَّدِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بَلِ اسْتَكْمَلَهُ بِقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَاجْتَثَّ بِذَلِكَ جُذُورَ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ فَاشِيَّةً فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَهِيَ اتِّخَاذُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ تُعْتَقَدُ لَهُمُ السُّلْطَةُ الْغَيْبِيَّةُ، وَيُدْعَوْنَ لِذَلِكَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَيُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ فِي الدُّنْيَا، وَيُتَقَرَّبُ بِهِمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى. وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَمُقَارَعَةِ الْمُشْرِكِينَ هُوَ تَفْصِيل لِهَذَا الْإِجْمَالِ.
وَأَمَّا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ: فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مَطْوِيّ فِي {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَذِكْرُ الرَّحْمَةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ- وَهِيَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ- وَعْد بِالْإِحْسَانِ، وَقَدْ كَرَّرَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً تَنْبِيهًا لَنَا عَلَى أَمْرِهِ إِيَّانَا بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ رَحْمَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِنَا لِأَنَّهُ لِمَصْلَحَتِنَا وَمَنْفَعَتِنَا، وَقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ مَعًا لِأَنَّ مَعْنَى الدِّينِ: الْخُضُوعُ. أَيْ أَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ السُّلْطَانَ الْمُطْلَقَ وَالسِّيَادَةَ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا- لَا حَقِيقَةً وَلَا ادِّعَاءً- وَأَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ يَكُونُ خَاضِعًا لِعَظَمَتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا يَرْجُو رَحْمَتَهُ وَيَخْشَى عَذَابَهُ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. أَوْ مَعْنَى الدِّينِ: الْجَزَاءُ، وَهُوَ إِمَّا ثَوَاب لِلْمُحْسِنِ، وَإِمَّا عِقَاب لِلْمُسِيءِ، وَذَلِكَ وَعْد وَوَعِيد. وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وَهُوَ الَّذِي مَنْ سَلَكَهُ فَازَ، وَمَنْ تَنَكَّبَهُ هَلَكَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ.
وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فَبَعْدَ أَنْ ذُكِرَتْ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أَوْضَحَ مَعْنَاهَا بَعْضَ الْإِيضَاحِ فِي بَيَانِ الْأَمْرِ الرَّابِعِ الَّذِي يَشْمَلُهَا وَيَشْمَلُ أَحْكَامَ الْمُعَامَلَاتِ وَسِيَاسَةَ الْأُمَّةِ بِقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أَيْ إِنَّهُ قَدْ وَضَعَ لَنَا صِرَاطًا سَيُبَيِّنُهُ وَيُحَدِّدُهُ وَتَكُونُ السَّعَادَةُ فِي الِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ، وَالشَّقَاوَةُ فِي الِانْحِرَافِ عَنْهُ، وَهَذِهِ الِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهِ هِيَ رُوحُ الْعِبَادَةِ، وَيُشْبِهُ هَذَا قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ هُوَ كَمَالُ الْعِبَادَةِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ. وَالْفَاتِحَةُ بِجُمْلَتِهَا تَنْفُخُ رُوحَ الْعِبَادَةِ فِي الْمُتَدَبِّرِ لَهَا، وَرُوحُ الْعِبَادَةِ هِيَ: إِشْرَابُ الْقُلُوبِ خَشْيَةَ اللهِ وَهَيْبَتَهُ، وَالرَّجَاءَ لِفَضْلِهِ، لَا الْأَعْمَالُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ فِعْلٍ وَكَفٍّ وَحَرَكَاتِ اللِّسَانِ وَالْأَعْضَاءِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ الْعِبَادَةُ فِي الْفَاتِحَةِ قَبْلَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ وَأَحْكَامِهَا، وَالصِّيَامِ وَأَيَّامِهِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الرُّوحُ فِي الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يُكَلَّفُوا هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْبَدَنِيَّةَ وَقَبْلَ نُزُولِ أَحْكَامِهَا الَّتِي فُصِّلَتْ فِي الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا مَا، وَإِنَّمَا الْحَرَكَاتُ وَالْأَعْمَالُ مِمَّا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ، وَمُخُّ الْعِبَادَةِ الْفِكْرُ وَالْعِبْرَةُ.
وَأَمَّا الْأَخْبَارُ وَالْقَصَصُ فَفِي قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} تَصْرِيح بِأَنَّ هُنَاكَ قَوْمًا تَقَدَّمُوا وَقَدْ شَرَّعَ اللهُ شَرَائِعَ لِهِدَايَتِهِمْ. وَصَائِح يَصِيحُ: أَلَا فَانْظُرُوا فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَاعْتَبِرُوا بِهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ يَدْعُوهُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ الْقَصَصَ إِنَّمَا هِيَ لِلْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ. وَفِي قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} تَصْرِيح بِأَنَّ غَيْرَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَرِيقَانِ: فَرِيق ضَلَّ عَنْ صِرَاطِ اللهِ، وَفَرِيق جَاحَدَهُ وَعَانَدَ مَنْ يَدْعُو إِلَيْهِ، فَكَانَ مَحْفُوفًا بِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ وَالْخِزْيِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَبَاقِي الْقُرْآنِ يُفَصِّلُ لَنَا فِي أَخْبَارِ الْأُمَمِ هَذَا الْإِجْمَالَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُفِيدُ الْعِبْرَةَ فَيَشْرَحُ حَالَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ قَاوَمُوا الْحَقَّ عِنَادًا، وَالَّذِينَ ضَلُّوا فِيهِ ضَلَالًا. وَحَالَ الَّذِينَ حَافَظُوا عَلَيْهِ وَصَبَرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِهِ.
فَتَبَيَّنَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْفَاتِحَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ إِجْمَالًا عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي يُفَصِّلُهَا الْقُرْآنُ تَفْصِيلًا، فَكَانَ إِنْزَالُهَا أَوَّلًا مُوَافِقًا لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِبْدَاعِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاتِحَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُسَمَّى أُمُّ الْكِتَابِ كَمَا نَقُولُ إِنَّ النَّوَاةَ أُمُّ النَّخْلَةِ، فَإِنَّ النَّوَاةَ مُشْتَمِلَة عَلَى شَجَرَةِ النَّخْلَةِ كُلِّهَا حَقِيقَةً، لَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّ تَكُونُ أَوَّلًا وَيَأْتِي بَعْدَهَا الْأَوْلَادُ.
وَأَقُولُ الْآنَ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَبْسُوطًا مُوَضَّحًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نُزُولَ أَوَّلِ سُورَةِ الْعَلَقِ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ لَا يُنَافِي هَذِهِ الْحِكَمَ الَّتِي بَيَّنَهَا؛ لِأَنَّهُ تَمْهِيد لِلْوَحْيِ الْمُجْمَلِ وَالْمُفَصَّلِ، خَاصّ بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِعْلَام لَهُ بِأَنَّهُ يَكُونُ- وَهُوَ أُمِّيّ- قَارِئًا بِعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى وَمُخْرِجًا لِلْأُمِّيِّينَ مِنْ أُمِّيَّتِهِمْ إِلَى الْعِلْمِ بِالْقَلَمِ، أَيِ الْكِتَابَةِ، وَفِي ذَلِكَ اسْتِجَابَة لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [2: 129] فَسَّرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْكِتَابَ، بِالْكِتَابَةِ، ثُمَّ كَانَتِ الْفَاتِحَةُ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً، وَأُمِرَ النَّبِيُّ بِجَعْلِهَا أَوَّلَ الْقُرْآنِ، وَانْعَقَدَ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.
لَا أَذْكُرُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْبَسْمَلَةِ، مِنْ حَيْثُ لَفَظُهَا وَإِعْرَابُهَا، وَهَلْ هِيَ آيَة أَوْ جُزْءُ آيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ لَيْسَتْ مِنْهَا؟ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مَشْهُور، وَقَدِ اخْتَصَرَ الْأُسْتَاذُ الْقَوْلَ فِيهِ اخْتِصَارًا وَقَالَ: إِنَّهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْآيَاتِ.
وَأَقُولُ الْآنَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَنَّهَا جُزْءُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَانِهَا مِنْ سَائِرِ السُّوَرِ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا آيَة مَنْ كُلِّ سُورَةٍ عُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فُقَهَائِهِمْ وَقُرَّائِهِمْ وَمِنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَمِنْهُمْ عَاصِم وَالْكِسَائِيُّ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَبَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَأَتْبَاعُهُ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالْإِمَامِيَّةُ، وَمِنَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ: عَلِيّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَمِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاء، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَقْوَى حُجَجِهِمْ فِي ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْمُصْحَفِ أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ سِوَى سُورَةِ بَرَاءَةَ التَّوْبَةِ مَعَ الْأَمْرِ بِتَجْرِيدِ الْقُرْآنِ عَنْ كُلِّ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكْتُبُوا آمِينَ فِي آخِرِ الْفَاتِحَةِ، وَأَحَادِيثُ مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَة فَقَرَأَ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}» وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ- وَفِي رِوَايَةٍ «انْقِضَاءَ السُّورَةِ- حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ {بسم الله الرحمن الرحيم}».
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ صَحِيح عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَرَأْتُمُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ سُورَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاقْرَأُوا {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَإِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، و{بسم الله الرحمن الرحيم} إِحْدَى آيَاتِهَا». وَذَهَبَ مَالِك وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّامِ، وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ مِنْ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ إِلَى أَنَّهَا آيَة مُفْرَدَة أُنْزِلَتْ لِبَيَانِ رُءُوسِ السُّورِ وَالْفَصْلِ بَيْنَهَا، وَعَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالَ حَمْزَةُ مِنْ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهَا آيَة مِنَ الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَثَمَّةَ أَقْوَال أُخْرَى شَاذَّة.
هَذَا- وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْقُرْآنُ إِمَامُنَا وَقُدْوَتُنَا، فَافْتِتَاحُهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إِرْشَاد لَنَا بِأَنْ نَفْتَتِحَ أَعْمَالَنَا بِهَا فَمَا مَعْنَى هَذَا؟ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ نَفْتَتِحَ أَعْمَالَنَا بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ نَذْكُرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ أَوِ الاستعانة بِهِ، بَلْ أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَإِنَّهَا مَطْلُوبَة لِذَاتِهَا.
أَقُولُ الْآنَ: الِاسْمُ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ مِنَ الذَّوَاتِ كَحَجَرٍ وَخَشَبٍ وَزَيْدٍ، أَوْ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي كَالْعِلْمِ وَالْفَرَحِ. وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْجَوْهَرِ أَوِ الْعَرَضِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الِاسْمُ مَا يُعْرَفُ بِهِ ذَاتُ الشَّيْءِ وَأَصْلُهُ. وَقَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ مُشْتَقّ مِنَ السُّمُوِّ، وَإِنَّ أَصْلَهُ سَمَوَ؛ لِأَنَّ تَصْغِيرَهُ سُمَيّ وَجَمْعَهُ أَسْمَاء.
وَالسُّمُوُّ: الْعُلُوُّ، كَأَنَّ الِاسْمَ يَعْلُو مُسَمَّاهُ بِكَوْنِهِ عُنْوَانًا لَهُ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مِنَ السِّمَةِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَأَصْلُهُ وَسَمَ. وَقَالَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ فِي الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ: إِنَّ الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْوُجُودِ وَالْعَيْنِ- وَهِيَ عِنْدُهُمْ أَسْمَاء مُتَرَادِفَة- وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مِنَ اللُّغَةِ فِي شَيْءٍ، وَلَا هُوَ مِنَ الْفَلْسَفَةِ النَّافِعَةِ، بَلْ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الضَّارَّةِ، وَإِنْ قَالَ الْأُلُوسِيُّ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنِ ابْنِ فَوْرِكَ وَالسُّهَيْلِيِّ: وَمِمَّنْ يَعَضُّ عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ بَلْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا لِأَجْلِ النَّهْيِ عَنْ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي قِرَاءَةِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنَ السَّفْسَطَةِ فِي إِثْبَاتِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الِاسْمَ عَيْنُ الْمُسَمَّى. وَقَدْ كَتَبُوا لَغْوًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَلَّمَا تَرَى أَحَدًا رَضِيَ كَلَامَ غَيْرِهِ فِيهَا، وَلَكِنْ قَدْ يُرْضِيهِ كَلَامُ نَفْسِهِ الَّذِي يُؤَيِّدُ بِهِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ.
وَالْحُقُّ أَنَّ الِاسْمَ: هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ لِسَانُكَ وَيَكْتُبُهُ قَلَمُكَ، كَقَوْلِكَ: الشَّمْسُ أَوْ زَيْد أَوْ مَكَّةُ. وَالْمُسَمَّى: هُوَ الْكَوْكَبُ الْمَعْرُوفُ أَوِ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ أَوِ الْبَلَدُ الْمُحَدَّدُ، وَقَدْ يَكُونُ بَعِيدًا عَنْكَ عِنْدَ إِطْلَاقِ الِاسْمِ. وَلَفْظُ اسم اسْم لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، دُونَ الْأَحْدَاثِ الَّتِي تُسَمَّى فِي النَّحْوِ أَفْعَالًا. وَمَدْلُولُهُ مِثْلُ مَدْلُولِ لَفْظِ إِنْسَانٍ يُطْلَقُ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ كَلَفْظِ الشَّمْسِ الَّذِي تَنْطِقُ بِهِ وَتَكْتُبُهُ، وَلَفْظِ زَيْدٍ وَلَفْظِ مَكَّةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوْجُودَاتِ. فَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ نَسَبَ إِلَى سِيبَوَيْهِ غَيْرَ هَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ، بَلْ قَالَ فِي كِتَابِهِ بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ: مَا قَالَ نَحْوِيّ قَطُّ وَلَا عَرَبِيّ إِنَّ الِاسْمَ عَيْنُ الْمُسَمَّى، وَذَكَرَ بَعْضَ مَنْ قَالَ بِاتِّحَادِ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى بِالتَّسْمِيَةِ وَبَيَّنَ الْخَطَأَ فِي ذَلِكَ. وَأَنَّ مَعْنَى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} سَبِّحْ رَبَّكَ ذَاكِرًا اسْمَهُ الْأَعْلَى، وَمَعْنَى {سَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} سَبِّحْهُ نَاطِقًا بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ.
وَمَنْشَأُ الِاشْتِبَاهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذِكْرِهِ وتَسْبِيحِهِ فِي آيَاتٍ، وَبِذِكْرِ اسْمِهِ وَتَسْبِيحِ اسْمِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، فَقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [73: 89] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [76: 25] {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} [22: 40]: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [6: 118]: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [6: 119]: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [22: 36] أَيِ الْبُدْنِ عِنْدَ نَحْرِهَا، وَقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [33: 41- 42].: {فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [2: 198]، {فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [2: 200].: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [3: 191]، {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [4: 103]. وَقَالَ تَعَالَى فِي التَّسْبِيحِ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [7: 206] أَيْ يُسَبِّحُونَ رَبَّكَ فَعَدَّى التَّسْبِيحَ بِنَفْسِهِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّبِّ كَمَا عَدَّاهُ بِنَفْسِهِ إِلَى اسْمِ الرَّبِّ فِي قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [87: 1] وَبِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [56: 74، 96]. وَقَالَ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [57: 1] وَمِثْلُهُ كَثِير. وَقال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللهُ} [23: 14].: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [25: 1] كَمَا قَالَ: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [55: 78].
رَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِجَعْلِ الِاسْمِ عَيْنَ الْمُسَمَّى، وَأَنَّ ذِكْرَ اللهِ وَذِكْرَ اسْمِهِ وَتَسْبِيحَهُ وَتَسْبِيحَ اسْمِهِ وَاحِد؛ لِأَنَّ اسْمَهُ عَيْنُ ذَاتِهِ، وَأَنَّ هَذَا خَيْر مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ لَفْظَ اسم مُقْحَم زَائِد. وَالصَّوَابُ أَنَّ الذِّكْرَ فِي اللُّغَةِ ضِدَّ النِّسْيَانِ، وَهُوَ ذِكْرُ الْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ قَرَنَهُ بِالتَّفَكُّرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [3: 191] وَهُمَا عِبَادَتَانِ قَلْبِيَّتَانِ، وَقَالَ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [18: 24] وَيُطْلَقُ الذِّكْرُ أَيْضًا عَلَى النُّطْقِ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيل عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ وَعُنْوَان وَسَبَب لَهُ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ اللِّسَانُ اسْمَ اللهِ تَعَالَى كَمَا يَذْكُرُ مِنْ كُلِّ الْأَشْيَاءِ أَسْمَاءَهَا، دُونَ ذَوَاتِ مُسَمَّيَاتِهَا، فَإِذَا قَالَ: نَار لَا يَقَعُ جِسْمُ النَّارِ عَلَى لِسَانِهِ فَيُحْرِقُهُ، وَإِذَا قَالَ الظَّمْآنُ: مَاء لَا يَحْصُلُ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ فِي فِيهِ فَيَنْقَعُ غُلَّتَهُ، فَذِكْرُ اللهِ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ هُوَ تَذَكُّرُ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَنِعَمِهِ، وَوَرَدَ التَّصْرِيحُ بِالْأَمْرِ بِذِكْرِ نِعْمَةِ اللهِ وَآلَاءِ اللهِ. وَذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ هُوَ ذِكْرُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَإِسْنَادُ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ تَسْبِيحُهُ تَعَالَى، فَالْقَلْبُ يُسَبِّحُهُ بِاعْتِقَادِ كَمَالِهِ وَتَذَكُّرِ تَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَاللِّسَانُ يُسَبِّحُهُ بِإِضَافَةِ التَّسْبِيحِ إِلَى أَسْمَائِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِلَفْظِ الِاسْمِ. رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» فَلَمَّا نَزَلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» وَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولُوا: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ لَا سُبْحَانَ اسْمِ رَبِّيَ الْعَظِيمِ فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» وَفِي سُجُودِهِ «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى». وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْكَلَامِ عَنِ الذَّبَائِحِ ذِكْرُ اسْمِ اللهِ عَلَيْهَا {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} وَتَقَدَّمَ آنِفًا.